مصير الانسان بعد الموت
أمّا بالنسبة لمصير الإنسان بعد الموت، فإنَّ الهندوسية ـ كما يقول الحمراني في كتاب من قاموس الأديان، بحث الهندوسية ـ لا تؤمن بحياة أخرى فيها جنّة ونار وثواب وعقاب، وإنَّما يرتبط مصير النفس بموضوع التناسخ، حيث تنتقل الأنفس من بدن إلى آخر، وأعمال الإنسان هي التي تحدِّد مصير النفس، فإذا سلك سبيل الخير واتّبع الفضائل انعتقت نفسه من دورة الحياة في الأبدان واتحدّت بالروح الكلية، وإلاَّ تبقى في هذه الدورة متنقلة من بدن إلى آخر.
لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس، لأنَّ النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أمّا البدن فسمته النقص، ولكي يحقّق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن عند الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها.
فكلّ الحواس لا يمكن أن تؤدي وظائفها، إذا لـم تكن آتما، وهي النفس، صاحبة القيادة والإرادة؛ وذلك لأنَّ النفس آتما هذه أصلها من براهما Sang Hay ang الذي يعتبرها كقرص الشمس وهي شعاعه، تلك الأشعة التي تدخل في كلّ مكان على امتداد العمران والكرة الأرضية.
والنفس عند الهندوس بالرغم من أنَّها كاملة، ولكنَّها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنَّما خلاصها يتمّ عن طريق ممارسة رياضة «اليوغا»، وهذه الرياضة منها قسوة على البدن وتعويد للنفس على الصبر والثبات، واليوجا كلمة سنسكريتية معناها «النير» وسميت كذلك لأنَّها تخلّص النفس من نير البدن ومن نير الشهوات.
واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين، وتذهب اليوجا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد لأنَّه بحسب مبدأ الكارما قد تتطلب أفعال العبد السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية.
ما تقدّم يدفعنا إلى القول إلى أنَّ الهندوس لا يتوافقون مع الرسالات السَّماوية عموماً في مسألة الخالق وفي النظر إلى اليوم الآخر.
ومن مظاهر التقديس عند الهندوس، نهر الغانج الذي يحجون إليه سنوياً بقصد التطهر بمائه، وكذلك يلقون فيه رماد موتاهم بعد أن يتمّ إحراق أجسادهم، فالدفن للأبدان ليس معتمداً عندهم.
ويقدس الهندوس البقر ولا يأكلون لحومه، والأبقار تنتقل عندهم في شوارع المدن حيث تشاء، وبحرية تامة، لا يزعجها أحد، وقد حصل الكثير من حوادث القطارات والسير في الهند، نتيجة توقف سريع إكراماً لبقرة، والأبقار تنتقل عندهم في شوارع المدن حيث تشاء، ويأكلون اللبن فقط، ويستخدمون الروث وقوداً، أمّا البول فهو عندهم للعلاج أحياناً كالدواء، ويضعه الكهنة في أوعية ويرشونه على الجمهور بعد انتهاء طقوسهم في المعابد، أما إذا ماتت البقرة وجب دفنها بجلال الطقوس الدينية.
الكتب الهندوسية:
لـم تنسب النصوص المقدسة عند الهنود كما ذكرنا إلى شخص بعينه، والفيدا أو الويدا Weda التي تعني في لغة الهنود السنسكريتية المعرفة، هي عبارة عن مدونة كبرى أو موسوعة تحوي الكثير عن بلاد الهند وشعبها على امتداد قرون عديدة تبدأ مع حوالي 2500 ق.م.
والفيدا هذه مرّت بمراحل، فقبل أن تدون كان معناها التأمّل، ولكن بعد أن دوّنت وسجلت تاريخ الهند وتراثه ومفاهيم الهندوس الدينية، أصبحت هي التي تنظم حياة أتباعها وصولاً إلى المعرفة المنشودة.
ويرجح ديورانت أن أول من قام بمهمة التدوين للمرة الأولى بعض التجار الهنود من طائفة الدرافيديين، ما جعل هذه الكتابة كما يظهر لا تستخدم إلاَّ لأغراض تجارية وإدارية، وهذا يعني أن التجار لا الكهنة هم الذين ارتقوا بهذا الفن الأساسي.
وبناء على ذلك يصل السحمراني إلى نتيجة مفادها أنَّ تدوين الفيدا تطوّر مع تطوّر اللغة السنسكريتية نفسها، ولعلّ هذا التأخر في التدوين هو الذي حرّم الباحثين من مصادر المعرفة عن تاريخ الهند القديـم.
ويبدو أنَّ الكهنة الهندوس ـ البراهمة ـ قد شجعوا فيما بعد هذا التدوين لتكون الفيدات في أيديهم سلاحاً دينياً يضمن لهم السيطرة والموقع المتقدّم، خاصة بعد أن وطدوا أسس النظام الطبقي في الهند وأعطوه بعداً دينياً.
الفيدات كما يبدو لم تكن كتاباً واحدا،ً وإنَّما هي مجموعة كتب تصل إلى أربعة عشر كتاباً، وأهم هذه الكتب كتاب اسمه: «منُّوسَمَرتي» أو «شرع منُّو» وقد نقله إلى العربية إحسان حقّي، وفي تقديمه للكتاب يبيِّن ما في نصوص الكتاب من تشويش وعدم انسجام فيقول: «وإذا شئنا أن نصف منُّوسَمَرتي قلنا إنَّها مجموعة متناقضات، إذ بينما نراه يرتفع بتشريعه إلى أعلى درجات العقل والإدراك وسلامة الذوق والتفكير نراه ينحدر فجأة إلى درجةٍ من السخافة والإسفاف المخجل... ولئن دلَّ هذا على شيء فإنَّما يدلُّ على أنَّ هذا الكتاب كُتب في أوقات متباعدة وبأيدي أناس مختلفين اختلافاً كبيراً في العلم والعقل والإدراك».
نظام الطبقات عند الهندوس:
تدين غالبية الشعب الهندي بالهندوسية، التي تطوّرت مع تطوّر الهند نفسها، وكما سبق القول، فإنَّ الهندوسية ليست ديانة فحسب وإنَّما حوت من خلال مفاهيمها وكتبها، تاريخ الهند الحضاري.
وقد اختلط النظام الديني، كما يقول السحمراني، بمختلف الأنظمة من سياسي واجتماعي واقتصادي ولكي يضمن أصحاب النفوذ الديني وأصحاب النفوذ السياسي نفوذهم كرّسوا نظام طبقي اجتماعي يضمن لهم السيطرة، فكان من ذلك أن تبلور نظام الطبقات عند الهندوس، الذي وزّع الهنود في أربع طبقات مغلقة، ينتمي الأبناء بذلك إلى طبقات آبائهم حكماً.
الطبقات الأربع: يتكون المجتمع حسب الهندوسية من أربع طبقات هي: البراهمة، الكشاتريا، الويشاش، الشودر.
ومزاعم الهندوسية تصل إلى حدِّ التمييز في مصدر ما يتكوّن منه أهل كلّ طبقة, وفي شرع منُّو، المعروف باسم «منُّوسَمَرتي»، يقولون: «لسعادة العالـم خلق برهما البراهمة من وجهه، والكشتريين من ذراعيه، والويش من فخذيه، والشودر من قدميه».
ووصف البيروني حال هذه الطبقات بشكل لا يبعد عن المفهوم الوارد في "منوسمرتي"حيث يقول: «وهذه الطبقات في أوّل الأمر أربع، علياها البراهمة، قد ذُكر في كتبهم أنَّ خلقتهم كان من رأس براهم... والرأس علاوة الحيوان، فالبراهمة نقاوة الجنس، ولذلك صاروا عندهم خيرة الإنس، والطبقة التي تتلوهم كشتر خُلقوا بزعمهم من مناكب براهم ويديه ورتبتهم عن رتبة البراهمة غير متباعدة جداً، ودونهم بَيْش، خُلقوا من رجلي براهم. وهاتان المرتبتان الأخيرتان متقاربتان، وعلى تمايزهم تجمع المدن والقرى، أربعتهم مختلطي المساكن والدور».
أ ـ البراهمة: جاء في نصوصهم المقدّسة (منُّوسَمَرتي) أنَّ الإله الأكبر برهما قد «عهد إلى البراهمة بقراءة الويد وتعليمه والقيام بأعمال يكيه لأنفسهم ولغيرهم وخصهم بإعطاء الصدقات وقبولها».
وأبناء هذه الطبقة هم كما يقول كولر«من الكهنة والمعلمين الذي يعدُّون بصفة عامة حملة الثقافة، ومهماتهم هي الحفاظ على المعرفة والثقافة وإرضاء الآلهة, والحفاظ على العدالة والأخلاق».
ب ـ كشاتريا: الطبقة الثانية رتبة بعد البراهمة. تتولّى هذه الفئة مسألة الحفاظ على الأمن في البلاد، لذلك من الواجب أن يتميّز أبناؤها بالكفاءة السياسية والعسكرية معاً بحيث يكون لهم في المجتمع الإقدام والمهابة، ويقول جون كولر في تعريف الكشاتريا ما يلي: «وتتألف طبقة الكشاتريا من حماة المجتمع والقائمين على إدارة شؤونه، وهم حرَّاس باقي المجتمع، والقائمون على أمنه، وعلى تنفيذ القواعد المختلفة التي تقتضيها الوظائف الاجتماعية الضرورية، وجاء في الجيتا أنَّ البطولة والقوّة والاستقامة والحذق، وعدم الهرب حتّى في المعركة، والكرم والقيادة، تلك هي واجبات رجال الكشاتريا التي تولّدت من طبيعته».
وما يُناط بهذه الطبقة يستلزم، كما قال البيروني، أن يكون (الكشتر) «مهيباً في القلوب، شجاعاً، متعظماً، ذلق اللسان، سمح اليد، غير مبالٍ بالشدائد، حريصاً على تيسير الخطوب».
ج ـ الفايشاش أو الويش: مهمة هذه الطبقة أساسية في المجتمع يقع عليها توفير الأمن الغذائي وتأمين الرخاء والاستقرار المعيشي، والشأن الاقتصادي بيد هذه الطبقة، وعملهم هذا لايقومون به اختياراً بل تنص عليه (منُّوسَمَرتي)، أو (شرع منُّو) التي تقول: «وفرض على الويش سبعة أمور هي: حفظ الحيوانات ورعيها، وإعطاء الصدقات، والقيام بعبادة يكيه، وقراءة الويد، والعمل بالتجارة، والتعامل بالربا، والاشتغال بالزراعة».
وتحاول هذه الطبقة رفع مستواها رويداً رويداً، وتعمل على تحرير نفسها من قيود الحياة ومشاغل الأيام، ولكنَّها تظلّ خادمة للأمّة وللشعب، فهي المسؤولة عن الإنتاج والرخاء».
د ـ شودار: أو سودرا؛ وهذه أدنى طبقات المجتمع في هرم التوزيع الهندوسي، وهؤلاء أشبه ما يكونون بالعبيد، فواجبهم الخدمة والعمل وإنجاز كلّ ما يوكل لهم من الطبقات الأعلى. يقول البيروني: «ويكون شُودر مجتهداً في الخدمة والتملُّق، متحبباً إلى كلّ أحدٍ بها، وكلّ من هؤلاء إذا ثبت على رسمه وعادته نال الخير».
أمّا إذا لـم يقم بواجبه ناله العقاب، وقد نص شرع الهندوس (منُّوسَمَرتي) بشأن وظيفة هذه الطبقة بما يلي: «وفرض الإله الأعظم على الشودار أمراً واحداً وهو أن يقوم بإخلاص تام بخدمة هذه الفرق الثلاث»، ويقصد بها الطبقات السابقة الذكر وهم: البراهمة، الكشاتريا، والفايشاش.
أوجد هذا التقسيم الطبقي انقسامٍاً حادٍاً في المجتمع الهندي الذي يربطه الهندوس بأصل النشأة، وهذا يعني إقفال الطريق أمام الكفاءات والقدرات، وبالتالي فقدان العدالة، ما أدى إلى قيام العديد من المحاولات للتخلص من هذا النظام الطبقي الجائر، وكانت أبرز هذه المحاولات محاولة المهاتما غاندي، في أوائل القرن العشرين، ولكن المحاولة لم تحقق النتائج المرجوة، لأن التميز الطبقي متأصل في العقيدة، وفي المجتمع عند الهندوس.